التصعيد الأذربيجاني الإيراني- تهديدات ومناورات وتوازنات إقليمية معقدة

شهدت العلاقات المتوترة بين أذربيجان وإيران تصعيدًا ملحوظًا في الأيام القليلة الماضية، حيث كثفت طهران من لهجتها التهديدية، ونفذت مناورات عسكرية ضخمة على طول الحدود المشتركة، تُعد الأكبر من نوعها منذ تفكك الاتحاد السوفياتي. في المقابل، أقدمت باكو على إغلاق المكتب التمثيلي للمرشد الإيراني الأعلى، علي خامنئي، بينما ردت طهران بإغلاق مجالها الجوي أمام حركة الطيران بين أذربيجان ودول أخرى.
كشفت المناورات العسكرية الإيرانية والتهديدات المتبادلة، والانتقادات الأذربيجانية اللاذعة، عن وجود توترات كامنة في علاقة الجوار المعقدة بين البلدين، خاصة في منطقة جنوب القوقاز الحساسة، التي تخضع لتوازنات إقليمية ودولية دقيقة، وتشكل نقطة التقاء بين مصالح روسيا وتركيا وإيران.
تشهد الحدود الإيرانية مع كل من أذربيجان وأرمينيا تطورات جوهرية بعد انتهاء حرب قره باغ الثانية في أواخر العام الماضي. فقد استعادت أذربيجان السيطرة على معظم حدودها مع إيران بعد عقود من السيطرة الأرمينية، وقامت القوات الأذربيجانية بإيقاف الشاحنات الإيرانية المتجهة إلى أرمينيا عبر الأراضي المستعادة، واحتجاز سائقين إيرانيين.
تاريخيًا، اتسمت العلاقات بين البلدين الجارين بالتوتر منذ استقلال أذربيجان عام 1991. وبالتالي، فإن التوتر الحالي بين طهران وباكو ليس وليد اللحظة، إلا أنه يُعتبر الأخطر في سلسلة التوترات السابقة، ومن المرجح ألا يكون الأخير. تتعدد العوامل المؤثرة في علاقات البلدين، بما في ذلك الدور المحتمل لتل أبيب وواشنطن، بالإضافة إلى وجود الجالية الأرمينية داخل إيران. في المقابل، تشعر إيران بالقلق إزاء النزعات الانفصالية المحتملة في المناطق الأذرية، بينما تخشى أذربيجان من التأثير الديني الإيراني في مجتمعها العلماني.
تزايدت أهمية هذه التطورات الحدودية بعد استعادة أذربيجان لسيادتها على معظم حدودها مع إيران، مما أدى إلى قيام السلطات الأذربيجانية بفرض قيود على حركة الشاحنات الإيرانية المتجهة إلى أرمينيا، بما في ذلك فرض الضرائب وتوقيف السائقين، بدعوى المرور غير القانوني عبر الأراضي الأذربيجانية.
تُظهر حادثة الشاحنات وتوقيت المناورات العسكرية، وتبادل الانتقادات الحادة بين باكو وطهران، أن الأزمة الحالية مرتبطة ارتباطًا وثيقًا باتفاق وقف إطلاق النار الذي توسطت فيه روسيا بين أذربيجان وأرمينيا، والذي أوقف حرب ناغورني قره باغ الثانية. وقد أتاح هذا الاتفاق تبادل الممرات عبر الأراضي الأذربيجانية بين أرمينيا وعاصمة إقليم قره باغ، وعبر الأراضي الأرمينية بين إقليم نخجوان وأذربيجان.
يمكن القول إن إيران تعتبر نفسها الخاسر الأكبر من هذا الاتفاق، على الرغم من الترحيب الرسمي الظاهري به، واعتباره خطوة مهمة نحو إحلال السلام في المنطقة. إلا أن تصريحات وتحليلات بعض الدوائر المقربة من صناع القرار في طهران تشير إلى وجود مخاوف وقلق عميقين بشأن التداعيات المحتملة للترتيبات الجديدة على المدى الطويل.
وقد تجلى ذلك بوضوح في تصريح قائد القوات البرية الإيرانية، كيومرث حيدري، الذي أُدلي به بالتزامن مع انطلاق المناورات العسكرية الإيرانية على الحدود مع أذربيجان، حيث أكد أن "إيران حساسة تجاه أي تغيير في الحدود الرسمية لدول المنطقة، وتعتبر ذلك أمرًا غير مقبول. يجب حماية الحدود القانونية، ولا يجوز تبرير ضعف دولة في حماية حدودها بقيام دولة أخرى بتغييرها بدعم من الأجانب. إيران لن تسمح بحدوث ذلك".
في المقابل، صرح الرئيس الأذربيجاني، إلهام علييف، بشأن عبور الشاحنات الإيرانية إلى قره باغ، بأنه "غير قانوني، وقد تكرر مرارًا خلال فترة الاحتلال الأرميني لهذه المنطقة"، مشيرًا إلى أن بلاده قد أبلغت الجانب الإيراني باعتراضها على ذلك عبر القنوات الدبلوماسية المختلفة.
تعتبر إيران هذه التطورات مؤشرات على وجود مخطط يهدف إلى إحداث تغييرات جيوسياسية في جوارها القريب في منطقة القوقاز، وذلك من خلال إزالة حدودها مع أرمينيا، والسيطرة على الشريط الحدودي الممتد من جمهورية نخجوان الأذربيجانية ذاتية الحكم إلى بقية أراضي أذربيجان، والذي يشكل الحدود الإيرانية الأرمينية. يُذكر أن إقليم نخجوان الأذربيجاني يعتبر أكبر منطقة جغرافية تابعة لدولة لا تربطها بها ممرات برية مباشرة، وتحيط بها أراضي دول أخرى من جميع الجهات.
تعكس هذه المناورات القلق العميق الذي تشعر به طهران إزاء التطورات المتسارعة في منطقة جنوب القوقاز، وتعزيز أذربيجان لعلاقاتها مع العديد من الأطراف الإقليمية والدولية. تأتي المناورات والتهديدات في سياق محاولة إعادة ترتيب الأوراق من قبل العديد من القوى الإقليمية، في أعقاب حرب قره باغ الثانية.
في ضوء هذه التوترات، شهدت المنطقة في فترة وجيزة سلسلة من المناورات العسكرية التي زادت من حدة التطورات ورفعت من مستوى المخاوف، بما في ذلك ثلاث مناورات مشتركة بين تركيا وأذربيجان، وبين تركيا وباكستان وأذربيجان، وبين تركيا وأذربيجان وجورجيا، بالإضافة إلى المناورات التي نظمتها القوات الإيرانية على الحدود مع أذربيجان.
يأتي هذا التصعيد في ظل مخاوف إيرانية متزايدة بشأن التطورات في جنوب القوقاز، وما تعتبره محاولات لتغيير التوازن الجيوسياسي على حسابها، وسط اتهامات متبادلة بين باكو وأطراف ثالثة بالتدخل في المنطقة، وخاصة إسرائيل. وقد أكد المتحدث باسم وزارة الخارجية الإيرانية، سعيد خطيب زاده، أن بلاده تتلقى تقارير متواصلة منذ المواجهة العسكرية بين أذربيجان وأرمينيا في العام الماضي، حول وجود "إرهابيين وقوات إسرائيلية" داخل أراضي جمهورية أذربيجان بالقرب من الحدود الإيرانية، مؤكدًا أن طهران قد أبلغت باكو بهذا الأمر. في المقابل، نفت باكو بشكل قاطع، على لسان العديد من المسؤولين، بمن فيهم الرئيس إلهام علييف، وجود أي قوات أجنبية بالقرب من الحدود.
يرى مراقبون أن طهران تستغل التوتر مع تل أبيب، التي تعزز علاقاتها وتعاونها مع دول جنوب القوقاز، وخاصة أذربيجان، للتغطية على الأزمات التي بدأت تظهر تداعياتها، نتيجة لخلافها مع باكو في العديد من الملفات، بما في ذلك قضية نقل شاحنات الوقود والبضائع الإيرانية إلى أرمينيا عبر إقليم ناغورني قره باغ، الذي استعادت أذربيجان معظم أراضيه بعد حرب عام 2020.
يمكن تفسير تركيز التصريحات والتهديدات الإيرانية الأخيرة على الدور الإسرائيلي في إطار الضغط على أذربيجان لكي تنأى بنفسها عن تل أبيب. فعلاقات التبادل التجاري وشراء المعدات العسكرية بين إسرائيل وأذربيجان ليست حديثة أو سرية، وقد كشفت مصادر إسرائيلية ودولية في السابق عن صفقات سنوية تبلغ قيمتها حوالي مليار دولار لتزويد أذربيجان بطائرات مسيرة وأنظمة أقمار صناعية إسرائيلية. وكانت باكو في عام 2016 ثاني أكبر مستورد للأسلحة الإسرائيلية، والثالثة في عام 2017.
ختامًا، ترى باكو ضرورة ملحة لتعزيز التعاون مع الولايات المتحدة الأمريكية وتركيا وإسرائيل، حيث تعتبر نفسها غير قادرة بمفردها على مواجهة أي أنشطة إيرانية قد تستهدفها.